أدى التعريف النسقي للديداكتيك من حيث هي تحليل ودراسة التفاعلات داخل نسق الوضعية التعليمية التعلمية، والقائمة بين مكونات الفعل الديداكتيكي الثلاثة (المدرس، المادة، المتعلم) إلى تحديد أقطاب ثلاثة لهذه التفاعلات:
ـ القطب البيداغوجي؛
ـ القطب الابستيمولوجي؛
ـ القطب السيكولوجي.
وتتمحور هذه الأقطاب حول أزواج ثلاثة من العلاقات تتأسس بين مكونات المثلث الديداكتيكي المذكور، وتشكل هذه العلاقات مجال البحث الديداكتيكي وفي الوقت نفسه جهازه المفهومي، ويوضحها الجدول الآتي:
الديداكتيك
| |||
المكونات
|
المكون المهيمن
|
الأقطاب
|
العلاقات
|
المدرس ــ المتعلم
|
المدرس
|
القطب البيداغوجي
|
علاقة التعاقد الديداكتيكي
Le contrat didactique
|
المدرس ــ المادة
|
المادة
|
القطب الابستيمولوجي
|
علاقة النقل الديداكتيكي
La transposition didactique
|
المتعلم ــ المادة
|
المتعلم
|
القطب السيكولوجي
|
علاقة التمثلات
Les représentations
|
1ـ علاقة التعاقد الديداكتيكي:
هي العلاقة التي تجمع المدرس بالمتعلم، ويتشكل التعاقد مما يأتي:
ـ مجموع القواعد والمواضعات والاتفاقات والمعايير التي تحدد بشكل صريح أو ضمني التزامات وأدوار كل من المدرس والمتعلم أو جماعة القسم بصفة عامة في الحياة المدرسية، وفي الأوضاع التعليمية التعلمية، ومن هذه القواعد ما تفرضه المؤسسة الاجتماعية والمنظومة التربوية، وتتحكم فيه أنواع المعاملات القائمة في نظام التواصل والتبادل الرمزي بين شركاء الفعل التربوي والتعليمي، ومنها ما ينشأ ويتشكل في حياة القسم والفصل الدراسي بناء على المشروع الديداكتيكي الذي يبنيه المدرس مع متعلميه لإنجاح التبادلات والتفاعلات الصفية؛
ـ الأدوار والمهام والالتزامات المسندة إلى كل من المدرس والمتعلم والمنتظر القيام بها وإنجازها بهدف تحقيق التعلم واستيعاب المعارف واكتساب المهارات؛
ـ المواقع التي يحتلها كل طرف من أطراف العلاقة في جماعة القسم، في علاقتهم بالمادة وبالتزاماتهم وأدوارهم... وتتحدد هذه المواقع انطلاقا من نظام العلاقات في القسم، والذي يعكس منظومة القيم السائدة ( الديمقراطية أو الاستبداد، الحرية أو التسلط والعنف والإكراه، الإشراك والإدماج أو الإقصاء والتهميش...)
ـ ما تفرضه المادة الدراسية أو أحد مكوناتها من شروط للإنجاز، وتحديد للمهام المطلوب إنجازها، فالتعاقدات القائمة في تعلم اللغة ليست هي نفسها القائمة في تعلم الفلسفة أو الرياضيات، إذ يتقلص التعاقد العام إلى تعاقدات خاصة بإنجاز أنشطة تعليم وتعلم مادة من المواد بناء على خصائص معارفها وخصوصية معطياتها ومضامينها، كما أن مكونا من المادة الواحدة قد يفرض تعاقدات أكثر تفصيلا وتدقيقا، وتحدد للمدرس كما تحدد للمتعلم أدوارا ومهام خاصة وسلوكات معينة ومنتظرة متميزة عن غيرها من الأدوار والمهام والسلوكات المنتظرة في سائر أنشطة المادة، بل إن المكون الواحد من المادة الدراسية، يطرح أكثر من تعاقد، ففي درس الإنشاء والتعبير لمادة اللغة العربية مثلا، يمكننا أن نبني تعاقدات تختلف باختلاف أنشطة هذا الدرس، فتعاقدات أنشطة الاكتساب هي غير تعاقدات أنشطة التطبيق وأنشطة الإنتاج، بل إن ما يميز هذه الأنشطة هو تنوع تعاقداتها التي تحدد شكل تدخل المدرس وشكل مشاركة المتعلم، والهدف من كل نشاط، وإيقاع التعلم فيه...
ـ أشكال الجزاء، والإطارات المرجعية للتقويم التي تحدد شروط التحقق من الوفاء بالالتزامات، وأداء المهام والأدوار، وتصحيح الوضعيات، وإصلاح الخلل وتذليل الصعوبات، وهي التي تجعل الفعل الديداكتيكي ممكنا وناجحا وقابلا للتحقق من بلوغ أهدافه وغاياته..
ويترتب عن غموض واضطراب التعاقدات، سوء فهم أطرافها لأدوارهم، وضعف إسهامهم في إنجاح رهانات التعاقد، ومن شأن الإخلال بالتعاقدات أن يؤدي إلى هشاشة المردودية وعدم تحقيق النتائج المرجوة.
2 ـ علاقة النقل الديداكتيكي:
وهي العلاقة التي تجمع المدرس بالمادة المُدرّسة، ويتكون النقل الديداكتيكي مما يأتي:
ـ مختلف عمليات الانتقاء والاختيار والتحويل والتفكيك وإعادة التركيب والتصنيف والتقسيم والتبويب، الجزئية أوالكلية، التي خضعت لها المادة المعرفية في منهاج أو برنامج دراسيين، وكل صيغ التفكير في المعارف وتحليلها بغرض جعلها قابلة للتعليم وميسرة للتعلم؛
ـ مجموع معايير الإدماج والتحيين والتكييف والتطويع والتوجيه للمعارف والمهارات والقيم في سياق تربوي وتعليمي معين، وإدراجها في محتويات وموضوعات دراسية منظمة في مدخلات وإجراءات وعمليات ومخرجات؛
ـ استراتيجيات تدخل المدرس في بناء مادة تخصصه وتدريسه، بهدف إخضاعها لمنطق الفصل الدراسي، وجعل محتوياتها ومعطياتها مسايرة لإيقاع التعلم وسيروراته ووضعياته، بضروب من التقديم والتأخير، والإرجاء والانتهاء، والتصرف والتصريف، وإعادة البناء والتنظيم، والتشخيص والتمثيل، وفق المشروع الديداكتيكي المقترح من قبل المدرس.
ويتبين من عمليات النقل الديداكتيكي أن قسما كبيرا منها يتم باستقلال نسبي عن المدرس، وعن ما يحدث في الفصل الدراسي، وإن استحضر ذلك واضعو المناهج والبرامج والمقررات والكتب المدرسية.
فأهم عمليات النقل الديداكتيكي تتحقق في سياق الفصل الدراسي وفي تفاعل المدرس مع المادة وأنشطة بنائها رفقة متعلميه، فالقسم هو الذي يموضع المعرفة المدرسية ويجعلها في وضعية قابلة للتعلم والاستعمال والتوظيف والاستثمار، كما أن كيفيات تصرف المتعلم في المادة المعرفية المدرسة واستخدامه لما تعلمه، هو الذي سيجعل هذه المادة المعرفية المدرسة ممكنة التحقق، عبر تلبيتها حاجات المتعلمين واستجابتها لاهتماماتهم.
ويمكننا رسم خطاطة النقل الديداكتيكي للمعارف في الترسيمة الموسعة الآتية التي تأخذ شكل مصفاة:
3 ـ علاقة التمثلات:
وهي العلاقة التي تجمع المتعلم بالمعرفة أو بالمادة المدرسة.
فـالمتعلم في وضعية تعليمية تعلمية ليس آلة ناسخة، ولا وعاء فارغا، وإنما هو مجموع استعدادات ومؤهلات نفسية وعقلية ووجدانية وجسمية، ومجموع مكتسبات قبلية يتم انطلاقا منها استدماج واستيعاب المعارف الجديدة... والمادة المعرفية في هذه الوضعية ليست بنيات جاهزة ومغلقة ومنتهية، وإنما هي في وضعية بناء وتشكيل وتكوين، وهي حصيلة نشاط تبادلي يكون فيه للذات المتعلمة دور مركزي في بنائها وتفسيرها وتأويلها والتحكم فيها... وفي هذه الوضعية لن يكون نشاط التعليم والتعلم مجرد عمليات شحن وملء ودفع للاستهلاك، وإنما هو عمليات تلق وبناء وإدماج فاعل، وإنتاج تشارك الذات المتعلمة في تحقيقه، كما أن اكتساب المعارف والمهارات والقيم لا يتم بالمراكمة والإضافة، أو بالانتقال من الجهل إلى العلم، ومن اللامعرفة إلى المعرفة، وإنما بالانتقال من تمثل إلى آخر، وبالمرور والعبور من بنية إلى أخرى.
ولهذا الاعتبار عدت تمثلات المتعلمين وتصوراتهم التي بوساطتها يستقبلون المعارف الجديدة ويستوعبونها ويستدمجونها، قاعدة انطلاق البحث الديداكتيكي في كيفيات حدوث التعلم واكتساب المعارف والمهارات والمفاهيم، ومجالا لتحليل الأخطاء والتعثرات والصعوبات التي تواجه التلاميذ في تحصيلهم الدراسي، ومعرفة مصادرها وطبيعتها وطرق معالجتها، وكذا معالجة التفاوتات الحاصلة بينهم في الفهم والإدراك وبناء تعلماتهم.
كما أن هذه التمثلات والتصورات تعتبر نقطة الارتكاز في بناء وضعيات انطلاق لإعداد الدروس والأنشطة التعليمية التعلمية، بما يسهم في إشراك المتعلمين في تدبير تعلمهم وبنائه، وتنمية كفاياتهم التواصلية وتطوير قدراتهم الاستدلالية وإشباع حاجاتهم المعرفية...
فما الذي نقصده بالتمثلات من حيث هي علاقة الذات المتعلمة بالمعرفة المراد تعليمها:
يمكن تحديد التمثلات في العمليات والسيرورات الآتية:
ـ الكيفية التي يستقبل بها المتعلم المعرفة المدرسية؛
ـ البنيات النفسية والذهنية التي يستوعب بها المتعلم المعارف والمفاهيم والمهارات المقترحة للتعلم؛
ـ التفاعلات الحاصلة بين مكتسبات المتعلم القبلية والوضعيات التعلمية الجديدة؛
ـ السيرورات الإدماجية التي يتم عبرها فهم وتفسير وتأويل المعارف من قبل المتعلمين؛
ـ ما أدركه المتعلمون من المعرفة، أو ما فهموه منها، حسب إيقاع تعلمهم ومؤهلاتهم وقدراتهم، بكل ما يحمله هذا الفهم والإدراك من غموض أو تحريف أو تحويل...
وقد صاغ الباحثان الديداكتيكيان آندري جيوردان A.Giordan وجيرار دي فيتشي G.Devecchi بنية هذه التمثلات في الصيغة الرياضية الآتية:[1]
F (PCORS) Conception =
فالتمثل أو التصور هو حصيلة العلاقة بين وضعية مشكلة ومقترحةProblème وإطار مرجعي Cadre de référence يتشكل من مجموع المعارف المستحضرة قبليا لدى المتعلم، والتي تساعده في صياغة المشكلة، وعمليات ذهنيةOperations mentales مكونة من الآليات التي يتوفر عليها المتعلم (مفاهيم وعمليات) وبها يتحكم في تعلمه، والشبكة الدلالية Réseau sémantique التي بوساطتها ينظم المتعلم التفاعلات الحاصلة بين الإطار المرجعي والعمليات الذهنية في مواجهة لوضعية مشكلة، وتعطي هذه الشبكة الدلالية معنى ما لبحث المتعلم وتأمله، ثم تأتي الدلالات أو الترميز Signification ou Symbolisation لتضفي على حصيلة التفاعلات السابقة نوعا من التحقق في خطاب المتعلم ومُنجَزه اللغوي أو المادي المعبر عن تصوراته وتمثلاته.
وتوضح الصيغة الرياضية المذكورة أن علاقة المتعلم بالمعرفة هي علاقة تمثل، وأن المتعلم لا يدرك من المعرفة إلا ما تتسع مؤهلاته وقدراته لإدراكه والتفاعل معه، وما كان دالا منها بالنسبة له، وأن بنية المعرفة المراد تعليمها لا تـَكتسب دلالتها بالنسبة للمتعلم إلا إذا أدمجت في بنيات استقباله ووجدت مكانها على قاعدة المكتسبات القبلية للمتعلم، واختصارا فإن التمثلات والتصورات هي فعل التعلم والاكتساب في حد ذاته.